الخميس، 30 أكتوبر 2008

مدلولات العقل والعقل البديل



























يمكن الاستدلال عن العقل من خلال البنية المفاهيمية للمعرفة الإنسانية ، فالعقل الفردي هو العقل المعبر عن الوجود الشخصي والعقل الاجتماعي هو العقل المعبر عن الإنتاج الفكري المجتمعي لمجتمع معين والعقل الإنساني هو العقل الموسع المعبر عن المعرفة الإنسانية بكل مناحيها القائمة . فالعقل ينبعث جوهرياً ليدفع الوجود نحو غاياته وفي واقع المتغيرات المعرفية للمعارف الإنسانية وتنوع الأفكار يظهر العقل كصيغة مفاهيمية غير غائبة مستدركة بالنقل والتبني والاكتساب وإدراك المواقف على أنها أصولية ناتجة عن ضرورة البقاء في شكل الوجود المحقق وسير الوجود على أساس التعقل ، فالعقل في واقع المجال المحدد هو منطق العقل المدرك والمتلازم مع ماهية العقل المرتبط به ، فالإدراك الواقعي يلتزم بما أسسه وحققه العقل الاجتماعي التاريخي فلو تحقق أي واقع غير ما حققه لكان وجوداً عقلياً وإدراكاً معقولاً لواقعيته ، فكل المتحققات مرغوبة من محققيها وكأن الفكر يبجل الأعمال العقلية المرتبطة بالضرورات المادية . فالعقل الاجتماعي لا يدرك الإدراك الفاعل أبعاد نتائج إسقاط حقائقه بفاعلية على عقل مغاير ومن أجل أن تكون عقولنا قادرة على فهم العقول المغايرة من خلال وجودنا ودون الوصل إلى ضرورة المضايقة الفعلية لكل ما يخالف وجودنا المعقلن على أساس وعينا ، علينا أن نفهم الأخر من خلال موقعه العقلي والنظام المفاهيمي
لكل محتويات البناء العقلي في وجوده فالوعي المنفتح على الكون بكل ما فيه من عجائب يجعل المفاهيم تنقلب دوياً وتتغير تلقائياً بفضل المتغيرات الجارية داخل البنية العقلية لعقلانية المعارف المأخوذة كإنتاج محلي مغلق يريد مواجهة الوجود المعاكس لوجوده بفضل الاستقرار النسبي لمرحلة عقلية ظلت قائمة بفضل معقوليتها . وهذا يؤكد عدم غائية المعارف العقلية فالغاية تنحصر فقط في عقولنا المحدودة ، فالمعارف تظل كمعارف قائمة بذاتها ولا تقوم بتوجيه العقول وإنما العقول هي من تقوم بتوجيه المعارف وفق غاياتها وأغراضها .






فالتحول نحو العقل الواحد هو غاية عظمى ترفع الوعي إلى مستوى الشمول الكوني ، إن وعي الحوادث في تحققها إنجاز قائم على وعي الصدفة ، فالولادة هي اتحاد بيضة مع نطفة في لحظة التحقق ، فالقدرة الحيوية فاعلة في كل الحيويات غير أن الاتحاد قام بناءً على عقل ضمني فتح اختياراً واحداً
أحدث وجود حياة . فالحقيقة العقلية قائمة على الذات اللحظية للانفتاح المتسع والكلي ، قادرة على الظهور كحقيقة مسلم بها وعند الوصول إلى الحقيقة المكتملة تظهر وكأنها قائمة بذاتها خارج العقل المؤدي إلى وعيها فالتحديد واللا تحديد مرتبطان بشكل واقعي فهل يمكن لأي معرفة مهما بلغت من الدقة أن تقوم بمعرفة المحددات في واقع لا يحددها كيف يمكن أن تحدد الموجودات دون ربطها بأخرى مغايرة لها وهل توجد محددات معزولة ، ما دام الكون متحد في ذاته فالجزء نابع من الكل والكل هو وحدة الجزاء ، فالعقل هنا مرتبط بالجسم دون أن يحدده فلو استطاع الجسم تحديد العقل لكان قادراً على تحديد جميع العقول
وبالتالي تحديد العقل الكلي لها جميعاً وهذه غير محقق لأن العقل الكلي لا زماني ولا مكاني ولأنه غير محدد فلا يمكن لعقل محدود أن يحدده وإن صياغته المقولة بشكل محكم يظهر العقل المفرد متضمن في العقل الكلي ومهما تزايدت جميع العقول الفردية فإنها لا تساوي غير جزء بسيط من العقل الكوني ، من هنا يمكن القول كلما زاد المحتوى الضمني للعقول الجمعية زاد تفاعلها مع العقل الكلي وارتفع مستواها في العقل الكلي وأصبحت أكثر دراية له ، فالتضمن الكلي لا يتيح الفصل لأن فالعقل الكوني والعقل الإنساني يشتركان في الوعي ذاته ولا يمكن تحديدهما إلا بالسعة ، فالعقل الكوني واسع الوجود وضامن له بالشكل الكلي أما العقل الإنساني فإن سعته متضمنة بالسعة الكلية ومعبرة عنها إنهما يتبادلا التأثير في وجودهما القائم في الوجود الكوني دون أي انتقاص للمكانة العقلية الناتجة عن التبادل ،فالكل ناتج عن الضرورة العقلية للوجود .






فالعقل الكلي عقل واحد متاح في كل العقول نظراً لتلازم الشرط العقلي في ماهية الأشياء لأن طريقة تعبيرها عن الكينونة طريقة عقلية متضمنة بوعي المحتوى والعلاقة التبادلية في النظام الكوني .






وبالنظر إلى عمق البنية المادية للدماغ يتضح بأنها بنية متحدة في كتلة منظمة بفاعلية قياسية شديدة الدقة لكنها ليست وعياً بل مادة تلازم تغيرات الوعي في بنيتها وإن انتهاء مدتها لا يؤثر على جوهر العقل وطاقته فالعقل كامل وشامل أما الدماغ يتطور ويتغير فالنمو العضوي للدماغ يرفع جاهزيته لتلقي الوعي العقلي فالمجموع العقلي للواقع البشري كل متحد ضمن انفصال عضوي متعدد الفهم للوعي الكوني فيظهر العجز السلوكي نظراً لضعف إتمام الدمج الفكري لوعي العقل الكوني .






ما يعطي الوجود معنى هو التوافق والتناغم في مجريات الكون المنسجم مع عقله وعندما يتحدد المجال يتحدد العقل بالتوافق مع مجاله فكل مجال له عقله الخاص ، فالعقل الأرضي يتحدد وعيه بمجاله القائم يربط وعي الظواهر بمجرياتها ويستوعب المعرفة في إطارها المحدد في هذا المجال ، فالظواهر المرتبطة به يستشف منها المعرفة المتحدة في بنيتها وحركتها ، فالزمان العقلي في المجال الأرضي هي الظواهر المتعاقبة في نظامه ، فالزمان هو ارتباط الظواهر بسلوك معين يظهر على شكل سلسلة جميع حلقاتها متماسكة ومنسجمة في اتحاد أبدي ، فالعقل ضمن مجاله المحدد يعيش زمان نمطي مرتبط بالظواهر القائمة في وجوده وعندما يرتفع العقل عن مجاله يختفي وعيه المجالي لينسجم مع منظومه مغايرة لمحتوى بنيته وعندما يتوهج بمعرفة غير نابعة عن المجال يظهر وكأنه خرج عن وجوده ورحل بعيداً عن الزمن متحداً مع العمق الكوني خارقاً جدار المعرفة في المجال الأرضي فيحدث الإشراف المتحد مع توهج العقل الكوني ويحتقر الانغلاق في المجال المحدد والمقيد وهذا ما يجعل الأفعال والتصرفات وجميع أنواع السلوك والأهداف والغايات عديمة الأهمية ، كونها مخالفة لنظام المعرفة المرتبطة بالعقل الكوني ولأنها مقيدة بالوجود المادي و خاضعة لتأثيره وفي عالم العقل لا يوجد غير الظواهر المعبرة عن وجوده .






فالعقل المرتبط بالجسد عقل كياني في مجراه العام لأن المنظومة المنطقية المتبعة في وجوده صادرة عن مجراه المحدد وخاضعة لنظام المجال الحاضن له ، ومهما بلغت المنظومة المنطقية حد الامتلاء في نظامه تظل قاصرة عن إدراك الحقيقة الكاملة .






ولا يعني بأن الحقيقة الكاملة غير قابلة للإدراك بل لأن العقل المدرك غير منفتح على مجالها ، فالعقل البشري قابل للانفتاح على مجالات الوعي المختلفة والمتغيرة والمتسعة ، ولكن عليه أن يتحرر من كافة القوالب المكدسة في وجوده ، عليه أن يرفع غطاء التاريخ من وعيه وأن يخرج وعيه من جميع أشكال القيود المادية ، عليه أن يحرر الفكر من كل التزاماته الواقعية حتى يكون وعيه قابلاً للانطباق مع الوعي الكوني ويكون قادراً على إخراج عالمه القائم من جميع الاشكالات والمساوئ والخلافات ، ويتحرر الفعل والعقل من الخلفيات الغير منظورة في بنية العقل المقيد ، لأن جميع الخطط الناتجة عن العقل المقيد وجميع التوقعات القادمة للحياة لن تستطيع الإفلات من الصعوبات والخلافات مادامت تحدد في طياتها غايات سلبية أو إيجابية نظراُ لعدم استقلالية العقل البشري المجرد عن وجوده المادي ، وعندما تصل اللحظة ، لحظة العقل المنفتح سيخرج عندها الفكر مخالفاً كل مضامينه منذ البداية وحتى وعي اللحظة .






وما دام العقل البشري يعمل لتحديد مستوى العقول والبشر ويسعى لبرمجتها ستبقى جميع المعارف المستخدمة لتحقيق هذه الأهداف خاطئة ، وما دام البشر يعملون لإلغاء مظاهر المعرفة المتنوعة والصادرة عن العقل لن يكون هناك شيء اسمه حقيقة ومادام يوجد في عالمنا شيء اسمه سيادة ستبقى الجهود مستمرة لقطع المجال أمام حياة الغير وسيبقى العالم قائماً بلا حياة حرة ومنسجمة مع ذاتها وستبقى الحياة الإنسانية مهددة إلى الأبد .






فالعقل المانع عقل سلطوي يمارس وجوده من مصدر نفعي وغير قادر على الاتحاد مع ذاته والتحرر من وعيه ويظل صامتاً بلا فاعلية لأنه يعتمد في أساس وعيه على وعي غيره ويبقى مرهوناً بالاتجاه النمطي المعزز بمعرفة مأخوذ من وعي عقل سابق تشكلت لإحلال صيغة عقلية ناهضة بالوعي لرفع واقع أصبح يعاكس نفسه فصمم عقله الناهض بوعي نوعي تمازج العقل فيه لدرجة الانصهار ولم يعد قادراً على تشكيل عقل فاعل فانطوى على ذاته متكئاً على وعي العقل السابق فاضمحل وغاب عن ماهيته مستسلماً لوجود قدري محتوم زاح عنه بريق الإشراق وخضع لنظام الطاعة العمياء .






المرجع المعتمد :






مقال العقل في منظور ثلاث علماء – ندوة اليازجي – مجلة المعرفة – العدد 454 – تموز 2001 – وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية .

ليست هناك تعليقات: